المصدر دار الخليج
د. سعيد العامرية
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى قرر الحلفاء في تلك الحرب نزولاً عند رأي الرئيس ويلسن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت إرسال لجنة أمريكية إلى فلسطين لتقديم تقرير لمؤتمر الصلح المنعقد في باريس للبت في مصير الإقليم العربي الفلسطيني، حيث تم تشكيل اللجنة برئاسة المستر كلارين الأمريكي ووصلت اللجنة إلى مدينة يافا العربية في العاشر من يونيو/حزيران سنة 1919 وبدأت عملها بإذاعة البيان الرسمي التالي:
“إن الشعب الأمريكي ليس له مطامع سياسية في أوروبا أو الشرق الأدنى بل يفضل على قدر الإمكان تجنب كل علاقة بالمشكلات الأوروبية والآسيوية والإفريقية ويرغب بإخلاص أن يسود السلام الدائم وأنه بهذه الروح يدنو من مشكلات الشرق الأوسط ولقد عين مجلس الأربعة (أي الحلفاء) لجنة دولية لدرس الحالة في المملكة التركية لعلاقتها بالوصايات، فغاية اللجنة الأمريكية الموجودة الآن على أرض فلسطين هي الوقوف جهد المستطاع على أحوال السكان والطبقات وعلاقاتهم ليكون الرئيس ويلسن والشعب الأمريكي على بينة من الحقائق في كل سياسة يدعى إلى السير عليها في جمعية الأمم” انتهى البيان .
وبعد أن أذاعت اللجنة الأمريكية بيانها طافت المدن السورية والفلسطينية ووضعت تقريراً بنتيجة استفتائها جاء فيه أن أكثرية السكان تطلب الآتي:
أ- وحدة سوريا السياسية ومن ضمنها كيليكيا شمالاً والصحراء السورية شرقاً وفلسطين حتى رفح جنوباً .
ب- الاستقلال الناجز لسوريا (المقصود في ذلك الوقت سوريا، الأردن، فلسطين ولبنان) .
ج- مقاومة الوطن القومي الصهيوني والهجرة اليهودية .
وقد جاء في هذا التقرير أيضاً ما يلي:
“اجتمعت كلمة المسلمين في فلسطين، وهم حسب الإحصاء الإنجليزي الأخير يبلغون أربعة أخماس السكان، على المطالبة باستقلال سوريا المتحدة، ولم تشذ منهم سوى فئة معروفة من الموظفين كانت تسير مع تيار النفوذ السياسي وقررت الأحزاب التي اجتمعت في يافا أن سوريا أهل لحكومة مستقلة بلا دولة وصية، وأنه إذا أصر مؤتمر الصلح على تعيين دولة فإنهم يفضلون الولايات المتحدة، وقد أيد الناس في القدس وغيرها من مدن فلسطين هذا القرار وكانوا يحيلون مسألة الوصاية إلى المؤتمر السوري الذي ينطق بلسانهم، ورفض بعض المسلمين ولا سيما في الجنوب قبول الوصاية رفضاً باتاً مهما كان نوعها، وقد ظهر ذلك منذ طلب المؤتمر السوري مساعدة أمريكا في الدرجة الأولى وإنجلترا في الدرجة الثانية، ورفض المؤتمر الوصاية الفرنسية بتاتاً، إن هذا ما يطلبه سواد المسلمين في فلسطين . ويرجح أن ذلك كان يجول في خواطرهم حينما أحالوا اللجنة على المؤتمر” .
وقد جاء في التقرير أن الرئيس ويلسن في خطبته التي ألقاها في 4 يوليو/تموز سنة 1918 وضع المبدأ التالي كواحد من المقاصد الأربعة الكبرى التي يحارب الحلفاء من أجلها وهي: “حل كل مسألة سواء كانت تتعلق بالأرض أو السيادة أو المسائل الاقتصادية والسياسية يجب أن يبنى على قبول الناس الذين يتعلق بهم، قبولاً حراً على المصالح المادية لفائدة أي دولة أو أمة أخرى ترغب في حل آخر خدمة لنفوذها الخارجي أو لسيادتها”، فإذا كان هذا المبدأ سيسود، وإذا كانت رغائب السكان في فلسطين سيعمل بها في ما يتعلق بفلسطين فيجب الاعتراف بأن السكان غير اليهود في فلسطين وهم تسعة أعشار السكان كلهم تقريباً يرفضون البرنامج الصهيوني رفضاً باتاً، والجداول تثبت أن سكان فلسطين لم يجمعوا على شيء مثل إجماعهم على هذا الرفض، فتعريض شعب هذه حالته النفسية لمهاجرة يهودية لا حد لها، ولضغط اقتصادي اجتماعي متواصل ليسلم بلاده نقض شائن للمبدأ العادل الذي تقدم شرحه، واعتداء على حقوق الشعب وإن كان ضمن صور قانونية .
وقد اتضح أيضاً أن الشعور العدائي ضد الصهيونية غير قاصر على فلسطين، بل يشمل سكان سوريا بوجه عام، فإن 72 في المئة من مجموع العرائض في سوريا ضد الصهيونية ولم ينل مطلب نسبة أكبر من هذه النسبة غير الوحدة السورية والاستقلال، وقد أعرب المؤتمر السوري الدمشقي في بيانه عن هذا الشعور العام في المواد 7 و8 و10 من بيانه .
ولا ينبغي لمؤتمر الصلح أن يتجاهل أن الشعور ضد الصهيونية في فلسطين وسوريا بالغ أشده وليس من السهل الاستخفاف به، فإن جميع الموظفين الإنجليز الذين حادثتهم اللجنة يعتقدون أن البرنامج الصهيوني لا يمكن تنفيذه إلا بالقوة المسلحة، ويجب ألا تقل هذه القوة عن خمسين ألف جندي، وهذا في نفسه برهان واضح على ما في البرنامج الصهيوني من الإجحاف بحقوق غير اليهود والواقع أنه لا بد من الجيوش في بعض الأحيان لتنفيذ القرارات ولكن ليس من المعقول أن تستخدم الجيوش لتنفيذ قرارات جائرة، هذا فضلاً عن أن مطالب الصهيونيين الأساسية في حقهم على فلسطين مبنية على كونهم احتلوها منذ ألفي سنة وهذه دعوى لا تستوجب الاكتراث والاهتمام . وهناك أمر لا يجوز إغفاله إذا كان العالم يريد أن تصير فلسطين مع الوقت بلاداً يهودية، وهي أن فلسطين هي الأرض المقدسة عند اليهود والمسلمين والمسيحيين على السواء يهم أمرها ملايين من المسيحيين والمسلمين في العالم، ولا سيما ما يتعلق من تلك الأحوال بالعقائد الدينية والحقوق، فمسألة فلسطين وما يتفرع منها مسألة دقيقة حرجة ومن المستحيل أن يرضى المسلمون والمسيحيون بوضع الأماكن المقدسة تحت رعاية اليهود مهما حسنت مقاصد هؤلاء، والسبب في ذلك هو أن الأماكن الأكثر تقديساً عند المسيحيين وهي ما له علاقة بالمسيح، والأماكن التي يقدسها المسلمون غير مقدسة عند اليهود بل مكروهة، ولا يستطيع المسيحيون والمسلمون في هذه الأحوال أن يرضوا عن وضع تلك الأماكن تحت إشراف اليهود، ثم هناك أماكن أخرى لها في نفوس المسلمين مثل هذا الشعور، ولما كانت هذه الأماكن كلها مقدسة ومحترمة من المسلمين، كانت وصايتهم عليها في ما مضى أمراً طبيعياً، فالذين يطلبون صيرورة فلسطين يهودية لم يحسبوا للنتائج حسابها ولا للشعور العدائي ضد الصهيونية في جميع أنحاء العالم التي تعتبر فلسطين أرضاً مقدسة .
وبناء على ما تقدم تشعر اللجنة مع عطفها على مسألة اليهود أن الواجب يقضي عليها بأن تشير على المؤتمر العدول بتاتاً عن الخطة التي ترمي إلى جعل فلسطين حكومة يهودية .
ولا يوجد هناك سبب لضم فلسطين إلى سوريا المتحدة كأقسام البلاد الأخرى ووضع الأماكن المقدسة تحت إدارة دولية دينية تكون كما هي الحال في الوقت الحاضر تحت إشراف الدولة الوصية وجمعية الأمم .
وتعود اللجنة أدراجها إلى باريس تحمل تقريرها هذا، فتجد الوفد الأمريكي قد انسحب من مؤتمر الصلح لأسباب كثيرة، أهمها ما أحسه من رغبة ملحة في دول الحلفاء لاقتسام الغنائم، وتناسي الوعود والعقود التي عقدوها مع العرب وغير العرب، فتنهار والحالة هذه اللجنة، ويمشي اللورد اللنبي إلى الأمير فيصل في 9 سبتمبر/ أيلول سنة 1919 يحمل إليه إنذاراً شفوياً من حكومته هذا نصه:
1- تعلن بريطانيا أنها ترفض الانتداب على سوريا بأي شكل كان .
2- تؤيد بريطانيا فكرة إنشاء وطن قومي في فلسطين .
3- تقاوم بريطانيا فكرة إنشاء حكومة تخالف رغبات الشعب السوري .
4- لما كان المارشال اللنبي هو المسؤول عن الأمن في هذه البلاد أمام المجلس الأعلى، فهو عازم على المحافظة على الأمن عند حدوث اضطرابات أو قلاقل وفي 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1919 انسحب الإنجليز من سوريا تنفيذاً لاتفاق سايكس بيكو .
إن عنوان هذا المقال ليس من عندنا وإنما جاء على لسان الكثير من الأمريكيين الذين يرون أن بلادهم تخضع لاحتلال “إسرائيلي” شأنها شأن فلسطين والجولان ومزارع شبعا في لبنان وقد نادوا بتحرير بلادهم من هذا الاحتلال وكان على رأس هؤلاء عضو الكونغرس الأمريكي السابق بول فندلي الذي ذكر في كتابه “من يجرؤ على الكلام” بأنه لو عرف الشعب الأمريكي مدى تحكم اللوبي الصهيوني إيباك في حكامه لحمل السلاح دفاعاً عن حكامه لأن اللوبي الصهيوني قتل الرئيس كنيدي وعزل الرئيس نيكسون ومنع إعادة انتخاب الرئيس جورج بوش الأب الأمر الذي أدى إلى إرهاب الرؤساء الأمريكيين ومساعديهم وتنفيذهم لجميع ما يأمرهم به اللوبي الصهيوني .
أما تقرير اللجنة المذكورة أعلاه فقد بين الموقف الأمريكي قبل الاحتلال الصهيوني لأمريكا، والذي تغير بعد الاحتلال بالكامل حيث أصبح الموقف الأمريكي و”الإسرائيلي” تجاه القضايا العربية واحداً في الجوهر والمظهر، وأصبح من واجب شعوب العالم العربي والإسلامي والدول الأخرى المحبة للحرية والسلام أن تساعد الشعب الأمريكي في التخلص من الاحتلال الصهيوني، كما هو واجبها في مساعدة الشعب العربي الفلسطيني للتحرر من الاحتلال الصهيوني . وتحرير الشعبين الفلسطيني والأمريكي من الاحتلال يتحقق فقط بإنهاء الحركة الصهيونية التي تجعل من اليهودي بغض النظر عن جنسيته وأصوله عبداً لها وموالياً ل “إسرائيل”، ينفذ تعاليمها حتى ضد الدولة التي يعيش فيها ويحمل جنسيتها، ولذلك فإن السلم والأمن الدوليين لا يمكن أن يتحققا إلا إذا تم حل هذه المنظمة الصهيونية النازية الإجرامية التي صدر قرار ضدها عام 1974 من الأمم المتحدة باعتبارها منظمة عنصرية .
وإذا قارنا التقرير الذي توصلت إليه اللجنة الأمريكية سنة 1919 الذي أوصى بالعدول بتاتاً عن الخطة التي ترمي إلى جعل فلسطين حكومة يهودية بما تمارسه الحكومة الصهيونية الأمريكية هذه الأيام من ضغوطات على العالم من أجل “إسرائيل”، وقيامها باحتلال بلاد مستقلة وعلى رأسها العراق وأفغانستان لمصلحة “إسرائيل”، لتبين لنا بوضوح مدى تحكم اللوبي الصهيوني (إيباك) في حكام أمريكا ومساعديهم، مثلما أمر كونداليزا رايس لتصرح بأن أمن العالم مرتبط بأمن “إسرائيل” مع أن وجود “إسرائيل” هو أكبر خطر على الأمن والسلم الدوليين في العالم أجمع، وبخاصة منطقة الشرق الأوسط .